قال المصنف رحمه الله تعالى : ( هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه وذلك مؤلف من جزأين مفردين فالأصلُ ما بني عليه غيرُه والفرع ما يبنى على غيره والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد)
-----
تقدم بيان معنى أصول الفقه وفيمَ يبحث وثمرته المجنية
ولكن جرت عادة الكثير الأصوليين في بيانهم لمعاني المصطلحات أن يتكلفوا تعريفاً جامعاً مانعاً
وهو من آثار "المنطق" اليوناني ,وهنا أمران مهمان:-
الأول-أن التعاريف(ويسمونها الحدود) إنما يتطلبها في الأصل =المبتدئون, والغاية منها تصور الشيء المتحدث عنه
فمن تحصّل على تصور جيد فلا ينبغي أن يُعنى بهذه الحدود ويبالغ في جرد أقوال العلماء فيها ويحاول من بعد ترجيحَ أحسنها..إلخ إذ المقصود منها كما أسلفت تصور الشيء , وكما قال ابن تيمية في غير موضع.. لو سئلتَ عن الرغيف ماهو , فتناولت رغيفاً وقلت هو ذا, لكان تعريفك وافياً بالمقصود مع كونه الأقرب لطريقة الشرع كتاباً وسنةً فهذا رسول الله يعرف الإسلام كما في حديث جبريل في الصحيحين بقوله "أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن تقيم الصلاة.." الحديث , ومثل هذا الحد من رسول الله لا ينسجم مع شروط المناطقة! , والمصنف هنا جاء بتعريفات سهلة واضحة ولله الحمد لا تكلف فيها ولا إغماض.
الثاني-أنهم إذا كان المصطلح مؤتلفاً من جزئين شرعوا ببيان كل جزء على حدة لأنهم يعدون تعريف المعنى اللقبي (أي المكون من أكثر مقطع مع كونه علَمَا على معنى مخصوص) متوقف على تعريف جزئيه
قال رحمه الله :الأصل ما بني عليه غيره
وهذا يصلح معنى لغويا وعرفيًا لا إشكال فيه ,قال الله عز وجل عن كلمة التوحيد مشبها إياها بالشجرة الطيبة الباسقة "أصلها ثابت وفرعها في السماء"
وترد كلمة الأصل في كلام الفقهاء على معان منها :
-القاعدة المطردة , وهذا مثل قولهم :الأصل أن الامر يقتضي الوجوب.
-والدليل..ومنه قولهم هذا الحديث أصلٌ في الباب, أو الأصل في تحريم كذا هو قوله تعالى كذا
-والنص المقيس عليه , ففي القياس ثم أصل وثم فرعٌ لم يرد بخصوصه نص فيقاس عليه لاشتراكهما في العلة.
وأول استعمالين هو المناسب لمعنى علم الأصول
قال :والفقه معرفة الأحكام الشرعية..إلخ ,فلم يعرفه في اللغة وهو في اللغة قريب من معنى الفهم ,وليس مرادفا للفهم من كل وجه ,واختلف في معناه على أقوال :
فقيل هو مطلق الفهم وقيل هو فهم الأشياء الدقيقة وقيل فهم غرض المتكلم ومرامه من الكلام
وباستقراء استعمالها في كتاب الله تعالى يظهر-والله أعلم- أنها قد تأتي بمعنى الفهم الذي مظنته حصول أثر على النفس
كما تأتي بمعنى العلم ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(رواه الترمذي وأبوداود وغيرهما من حديث زيد بن ثابت بسند حسن) والواقع يشهد له فرب راوٍ يحفظ الحديث ولا يدرك حقيقة معناه فيبلغه لمن هو أعلم منه فليس كل راوٍ ناقداً أو فقيهاً
"ولكن لا تفقهون تسبيحهم" لم يقل لا تفهمون لأنه لا يسمع لهم تسبيح أصلاً حتى نفهمه, والمعنى لا تعلمون بتسبيحهم لأنه يخفى عليكم ,"قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول" ومعلوم أنه ليس مرادهم عدم فهم معاني الألفاظ لأنه يكلمهم بلغتهم ولكن هو أشبه بقول القائل لمعارضه في لدد الخصومة :أنا لا أفهم ماتقول ,مع أنه يفهم معنى الكلام لكن مراده أنه لا يسلم به
"فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" أي ليتعلموا أو يفهموا الدين فهما يورث خشية
"واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي" أي يفهم عني فهماً ينفعه
"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه" أي أن يعوه وعي اتباع ومنه قوله تعالى "لهم أعين لا يبصرون بها"
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى :"
إنما الفقيه= الزاهد فى الدنيا الراغب فى الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورِع الكافّ عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لهم"
وتأمل استعمال الله تعالى لمادة الفهم التي لم ترد إلا مرة واحدة
قال سبحانه"ففهمناها سليمان" ولم يقل ففقهناها وإنما استعمل الفهم الدال على انكشاف المعنى في حين خفي على داود عليه السلام , ثم أماط الوهم عن الظن بداود عليه السلام أنه ليس من أهل العلم فقال "وكلا آتينا حكماً وعلما"
والله تعالى أعلى وأعلم