العِلْمُ رَحِمٌ بَيْنَ أَهْلِهِ، فَحَيَّ هَلاً بِكَ مُفِيْدَاً وَمُسْتَفِيْدَاً، مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدَى،
مُلازِمَاً لِلأَمَانَةِ العِلْمِيةِ، مُسْتَشْعِرَاً أَنَّ: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،
فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]،

مرحباً بزيارتك الأولى للملتقى، وللاستفادة من الملتقى والتفاعل فيسرنا تسجيلك عضواً فاعلاً ومتفاعلاً،
وإن كنت عضواً سابقاً فهلم إلى رحاب العلم من هنا.

حقيقة جلسة الاستراحة

د. نعمان مبارك جغيم

:: أستاذ أصول الفقه المشارك ::
إنضم
4 سبتمبر 2010
المشاركات
197
الجنس
ذكر
التخصص
أصول الفقه
الدولة
الجزائر
المدينة
-
المذهب الفقهي
من بلد يتبع عادة المذهب المالكي
حقيقة جلسة الاستراحة

المقال على شكل pdf من هذا الرابط:




أولا: التسمية


من الصعب تحديد من الذي وضع هذه التسمية (جلسة الاستراحة)، ومتى ظهرت بالضبط، ولكن الظاهر أن هذه التسمية لم تظهر قبل نهاية القرن الثالث الهجري؛ لعدم وجودها فيما وصلنا من كتب الحديث والفقه المطبوعة. وأقدم كتاب من كُتُب الفقه وجدتها فيه هو: الحاوي الكبير للماوردي المتوفى سنة (450هـ). وأقدم كتاب من كُتُب الحديث كُتُب الإمام البيهقي الشافعي (السنن الكبرى، معرفة السنن والآثار) المتوفى سنة (458هـ)، حيث عقد بابا بعنوان: "باب في جلسة الاستراحة". وهي تسمية طريفة ولا تخلو من الغرابة! فالاستراحة إنما تكون من التعب، ولكن تلك الجلسة تكون بعد سجود، والسجود يمثل غاية الاستراحة في الصلاة، فكيف يكون الإنسان في حاجة إلى الاستراحة بعد أن يكون قد استراح فيه. نعم، لو كانت تلك الجلسة بعد قيام طويل لَحَسُنَ تسميتُهَا "جلسة الاستراحة"، أما أن تُطْلَق هذه التسمية على ما يكون بعد الاستراحة في السجود فهو أَمْرٌ طريف.

ثانيا: الأصل في جلسة الاستراحة

عمدة الروايات الواردة في جلسة الاستراحة هي حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: "عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الحُوَيْرِثِ، فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ، وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، قَالَ أَيُّوبُ: فَقُلْتُ لِأَبِي قِلاَبَةَ: وَكَيْفَ كَانَتْ صَلاَتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاَةِ شَيْخِنَا هَذَا - يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ - قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ قَامَ." (صحيح البخاري، بَاب: كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَةِ؟).

ثالثا: جلسة الاستراحة في كتب الحديث

يظهر من كلام بعض العلماء الأوائل أنهم لم يكونوا يَنْظُرُون إلى الجلسة التي ورد ذكرها في رواية مالك بن الحويرث رضي الله عنه بعد الركعة الأولى والثالثة على أنها شيء منفصل ومقصود لذاته، بل كانوا يربطونها بكيفية الوقوف من السجود والاعتماد على اليدين في ذلك.

إذا نظرنا في كتاب "الأم" للإمام الشافعي (ت204هـ)، وهو أقدم كتاب وردت فيه تلك الرواية، نجد أنه -بعد أن أورد الرواية- عَقَّبَ عليها بقوله: "وبهذا نأخذ، فَنَأْمُرُ من قام من سجودٍ، أو جلوسٍ في الصلاة أن يعتمد على الأرض بيديه مَعًا اتباعا للسنَّة؛ فإن ذلك أشبه للتواضع، وأعون للمصلي على الصلاة، وأحْرَى أن لا ينقلب." (الأم، ج1، ص139).

وقد ترجم لها ابن أبي شيبة (ت235هـ) في مُصَنَّفه بقوله: "باب في الرَّجُل يعتمد على يديه في الصلاة"، وذكر معها أقوالا مختلفة للصحابة والتابعين عن الاعتماد على اليدين في القيام. فروى عن ابن عمر وأبي قلابة والحسن أنهم كانوا يعتمدون على أيديهم في الصلاة. وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان يرى عدم الاعتماد على اليدين عند النهوض إلا أن يكون شيخا كبيرا لا يستطيع. وروى عن إبراهيم النخعي وابن سيرين أنهما كانا يقولان بقول علي رضي الله عنه.

وترجم لها أبو داود (ت275هـ) في سننه بقوله: "باب النهوض في الفرد".

وترجم لها الترمذي (ت279هـ) بقوله: "باب كيف النهوض من السجود."

ونجد بداية التنصيص على تلك الجلسة في التبويب عند الإمام البخاري (ت256هـ)، حيث عقد لها بابا بعنوان: "بَابُ مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ ثُمَّ نَهَضَ".

وكذلك فعل النَّسَائي (ت303هـ)، حيث أورد الرواية تحت بابين: أحدهما: "الاستواء للجلوس عند الرفع من السجدتين"، الثاني: "الاعتماد على الأرض عند النهوض".

وابن خزيمة (ت311هـ)، حيث أوردها تحت بابين، أحدهما: "باب الجلوس بعد رفع الرأس من السجدة الثانية قبل القيام إلى الركعة الثانية وإلى الركعة الرابعة". الثاني: "باب الاعتماد على اليدين عند النهوض إلى الركعة الثانية وإلى الرابعة."

وأول من أشار إلى الاستحباب في التبويب ابن حبان (ت354هـ)، حيث بوَّب لها بقوله: "ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْعُدَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ بَعْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَائِمًا"، وبقوله: "ذِكْرُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُعُودِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ".

رابعا: آراء العلماء في حكم جلسة الاستراحة

ذكر الترمذي أن عامة علماء الصدر الأول على عدم العمل بجلسة الاستراحة إلا في حال الحاجة إليها، حيث عَقَّبَ على حديث أبي هريرة -الذي سيأتي ذكره- بقوله: "حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ العَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: يَخْتَارُونَ أَنْ يَنْهَضَ الرَّجُلُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ." وقال عن حديث مالك بن الحويرث الذي فيه جلسة الاستراحة: "حديث مالك بن الحويرث حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند بعض أهل العلم، وبه يقول بعض أصحابنا." (سنن الترمذي، ج1، ص373).

المذهب الشافعي: جعلها عامة علماء المذهب الشافعي من الهيئات المسنونة (المستحبة) في الصلاة. قال الماوردي: "فيستحب له بعدها أن يجلس قبل قيامه إلى الثانية جلسة الاستراحة، وهي سُنَّة، وليست واجبة. وقال أبو حنيفة: ليست هذه الجلسة مستحبة، ولا سُنَّة، وسَاعَدَهُ بعضُ أصحابنا." (الحاوي الكبير، ج2، ص131).

المذهب الحنفي: لم يأخذ بها أبو حنيفة اتباعا لما كان عليه العمل عند ابن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهو مذهب إبراهيم النخعي الذي يُعَدُّ أساس مذهب أبي حنيفة. جاء في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني: "أفيُسْتَحَبُّ له إذا نهض أن ينهض على صدور قدميه إذا رفع رأسَهُ من السجود حتى يَسْتَتِمَّ قائما ولا يقعد؟ قال: نعم، يُسْتَحَبُّ له ذلك." (الأصل، ج1، ص32). وقال الكاساني: "ثم ينهض على صدور قدميه ولا يقعد، يعني إذا قام من الأولى إلى الثانية ومن الثالثة إلى الرابعة." (بدائع الصنائع، ج1، ص211).

ونصَّ بعضُ علماء الحنفية على كراهتها، حيث جاء في كتاب: البناية شرح الهداية لبدر الدين العيني (ت855هـ): "وفي "جمل النوازل": جلسة الاستراحة مكروهة عندنا لأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا ينهضون على صدور أقدامهم." (ج2، ص250). ولكن نُقِل عن شمس الأئمة الحلواني الحنفي (ت448هـ) أنه قال: "الخلاف في الأفضلية، حتى إذا جلس لا بأس به عندنا، وإذا لم يجلس لا بأس به عند الشافعي." (البناية شرح الهداية، ج2، ص251).

المذهب المالكي: لم يأخذ بها الإمام مالك لأن العمل المتوارث في المدينة عن الصحابة رضي الله عنهم عدم العمل بها. قال ابن رشد الجد: "وأما نهوضه من السجود إلى القيام دون أن يرجع إلى الجلوس في الركعة الأولى والثالثة، فهو معلوم من مذهبه وعليه العلماء. وذهب الشافعي إلى أنه يرجع إلى الجلوس على ما روي عن مالك بن الحويرث... والذي عليه الجمهور هو الصحيح؛ لأن ذلك قد روي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتصل به العمل." (البيان والتحصيل، ج1، ص414).

المذهب الحنبلي: عن الإمام أحمد روايتان: إحداهما: عدم الجلوس، وهي التي رواها عنه إسحاق الكوسج، واختارها الخرقي، وقال عنها الإمام أحمد: " أكثر الأحاديث على هذا" (المغني، ج1، ص380). جاء في: مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه لإسحاق بن منصور الكوسج (ت251هـ): "قُلْتُ: إذا قام من القعدة الأولى يضع يديه على الأرض، أو ينهض على صدور قدميه؟ قال: بل ينهض على صدور قدميه ويعتمد على ركبتيه. قال: وفي الركعة الأولى والثالثة ينهض على صدور قدميه. قال إسحاق: ينهض على صدور قدميه ويعتمد بيديه على الأرض، فإن لم يقدر أن يعتمد على يديه وصدور قدميه جَلَسَ، ثم اعتمد على يديه وقام." (مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، ج2، ص566).

الرواية الثانية: إثبات تلك الجلسة، وهو الذي اختاره الخلال، وقال إن الإمام أحمد رجع إليه. (المغني لابن قدامة، ج1، ص380). والقول برجوع الإمام أحمد فيه نظر؛ فإن إسحاق بن منصور الكوسج أثْبَتَ الرواية الأولى، وقد جاء في سير أعلام النبلاء "أن إسحاق بن منصور بَلَغَهُ أن أحمد بن حنبل رجع عن بعض تلك المسائل التي علَّقَها عنه، فحملها في جراب على ظهره وخرج راجلا إلى بغداد، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة استفتاه عنها، فأقرَّ له بها ثانيا، وأُعْجِبَ به." (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج12، ص259). ولعل الإمام أحمد عمل أحيانا برواية مالك بن الحويرث من باب العمل بكل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فظنَّ من رآه أنَّهُ قد رجع عن رأيه في أن الأصل في القيام من السجود يكون دون تلك الجلسة.

المذهب الظاهري: يقول ابن حزم: "ونستحب لكلِّ مُصَلٍّ إذا رفع رأسه من السجدة الثانية أن يجلس متمكنا، ثم يقوم من ذلك الجلوس إلى الركعة الثانية والرابعة." (المحلى، ج3، ص39).

خامسا: كيفية جلسة الاستراحة

أكثر القائلين بجلسة الاستراحة هم علماء الشافعية، وقد ذكر الماوردي أنهم اختلفوا في كيفيتها على وجهين:

أحدهما: أنه يجلس على صدر قدميه غير مطمئن. فعلى هذا يرفع من سجوده غير مُكَبِّرٍ فإذا أراد النهوض من هذه الجلسة اعتمد بيديه على الأرض ثم قام مُكَبِّرًا. والوجه الثاني: أنه يجلس مفترشا لقدمه اليسرى مطمئنا، كجلوسه بين السجدتين. فعلى هذا يرفع من سجوده مُكَبِّرًا، فإذا أراد النهوض من هذه الجلسة قام غير مُكَبِّر معتمدا بيديه على الأرض. (الحاوي الكبير، ج2، ص131). وإذا أخذنا بالصورة الأولى فإننا نجدها قريبة من قول جمهور العلماء الذين يقولون بقيام المصلي على صدور قدميه دون جلوس، فتكون تلك الجلسة إطالة للمكوث على صدور القدمين مع الجلوس على العقبين للمساعدة على القيام. وهذا يُقَرِّبُ الخلاف بين القائلين بجلسة الاستراحة والقائلين بعدمها.

سادسا: الأدلة

عُمْدَةُ القائلين بجلسة الاستراحة حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: "عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الحُوَيْرِثِ، فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ، وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، قَالَ أَيُّوبُ: فَقُلْتُ لِأَبِي قِلاَبَةَ: وَكَيْفَ كَانَتْ صَلاَتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاَةِ شَيْخِنَا هَذَا - يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ - قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْخُ يُتِمُّ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ قَامَ." (صحيح البخاري، بَاب: كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَةِ؟).

وعُمْدَة القائلين بأن الأصل عدم الجلوس، وإنما يكون الجلوس عند الحاجة إلى ذلك، عَمَلُ بعض أكابر الصحابة الذين صَلُّوا خَلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم سنوات عديدة. قال ابن قدامة: "رُوِيَ ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس... وقال أحمد: أكثر الأحاديث على هذا... وقال النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك، أي لا يجلس. قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم. وقال أبو الزناد: تلك السنَّة." (المغني لابن قدامة، ج1، ص380).

وعن سليمان الأعمش قال: رأيت عمارة بن عمير يصلي من قبل أبواب كندة قال: فرأيته ركع ثم سجد، فلما قَامَ مِنَ السَّجْدَةِ الآخِرَةِ قَامَ كَمَا هُوَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- يَقُومُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ الْأَعْمَشُ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَحَدَّثْتُ بِهِ خَيْثَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُومُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، فَحَدَّثْتُ بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَقَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُومُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، فَحَدَّثْتُ بِهِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيَّ فَقَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُومُونَ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ." قال البيهقي: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رحمه الله-: هَذَا الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ صَحِيحٌ. (الخلافيات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه للبيهقي، ج2، ص396).

ما سبق ذكره هو عُمْدَةُ الرأيين، ولم يُنْكِر أصحابُ الرأي الثاني ما نَقَلَهُ مالك بن الحويرث من فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم، بل قالوا بثبوته، ولكنهم حملوا ذلك على أنه يكون قد فَعَلَهُ من باب العُذْر في آخر حياته بعد أن بَدَّنَ، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا تُبَادِرُونِي فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنِّي قَدْ بَدَّنْتُ، وَمَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إِذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي إِذَا رَفَعْتُ، وَمَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إِذَا سَجَدْتُ تُدْرِكُونِي إِذَا رَفَعْتُ." (مسند أحمد). كما أنه لا يمكن لأصحاب الرأي الأول أن يُنكروا ما نُقِلَ عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم من عدم فِعْل تلك الجلسة.

وقد وقع النزاع بين الفريقين في بعض الأدلة، منها:

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَضُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ." (الترمذي، أبو داود). استدل به بعض النافين لجلسة الاستراحة، وردَّ المثبتون لها بأن في سَنَد ذلك الحديث "خَالِدُ بْنُ إِيَاسٍ" وهو ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ (سنن أبي داود، ج1، ص222). ولكن على الرغم من ضعف تلك الرواية، فقد عَقَّبَ عليها الترمذي بقوله: "حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِ العَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: يَخْتَارُونَ أَنْ يَنْهَضَ الرَّجُلُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ." (سنن الترمذي، ج1، ص373). والظاهر أن الذي جعل عامة أهل العلم في الصدر الأول يختارون القول بترك تلك الجلسة والنهوض على صدور القدمين هو اتصال العمل بذلك منذ زمن الصحابة رضي الله، وما صَحَّ عن مجموعة من أكابر الصحابة أنهم كانوا يقومون مباشرة على صدور القدمين، وليس مجرد تلك الرواية. وبناء على ذلك، فإن القائلين بترك تلك الجلسة لا يَضُرُّهُم ضُعْفُ تلك الرواية، لثبوت عمل الصحابة عندهم قبل ظهور تلك الرواية.

2- استدل الذين لا يقولون بجلسة الاستراحة بأن أغلب الروايات الواردة في وَصْفِ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تُذْكَر فيها تلك الجلسة، ولو كانت من سُنَنِ الصلاة لما ترك عامة الصحابة ذكرها في وَصْفِهِم. ورَدَّ المثبتون لتلك الجلسة بأن ما ورد من وَصْفٍ لصلاته صلى الله عليه وسلم دون ذِكْرٍ لتلك الجلسة لا يلزم منه عدم وجودها؛ لأن عَدَم الذِّكْر لا يلزم منه عدم الوجود، وأنه لا يلزم استيعاب جميع السنن في الرواية الواحدة. قال ابن حزم: "فإن احتجوا بحديث أبي حميد بأنه ليس فيه هذا الجلوس، قلنا لهم: لا حُجَّة لكم في هذا، لأنه ليس تُذْكَرُ جميعُ السُّنَن في كلِّ حديث، وإن كان لم يذكره أبو حميد فقد ذكره غيره من الصحابة، ولم يذكر أبو حميد أنه كان لا يفعل ذلك، فمن أَقْحَمَ ذلك في حديث أبي حميد فقد كذب على أبي حميد وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين من قال: لو فَعَلَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لَذَكَرَ أبو حميد أنه فَعَلَه، وبين مَنْ عارضه فقال: لو لم يَفْعَلْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لذكر أبو حميد أنه كان لا يفعله؟" (المحلى، ج3، ص39). وقد ذهب ابن حزم إلى أن من لم يعمل بجلسة الاستراحة قد خالف عمل الصحابي الذي لا يُعْرَف له مُخَالِف، فقال: "ولم يَرَ ذلك أبو حنيفة ومالك. قال علي: وهذا مما تركوا فيه عَمَلَ صاحبين لا يُعرف لهما مُخَالِفٌ من الصحابة رضي الله عنهم." (المحلى، ج3، ص39). ولا شك أن مراد ابن حزم من عدم المعارضة: عدم ورود نَصٍّ صحيح عن الصحابة يُصَرِّحُ باللفظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس تلك الجلسة.

ما سبق ذكرُهُ من استدلال ابن حزم -ومن وافقه في ذلك- غير مُسَلَّم؛ فلو أن الأمر اقتصر على عدم ذكر تلك الجلسة في وَصْفِ صلاته صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ بعض الصحابة، لكان القول بأنه لا يلزم استيعاب جميع السُّنَن في وَصْفٍ واحد، وأن عدم ذكرها لا يعني نَفْيَ وجودها، مقبولا. ولكنه ثبت عن جماعة من الصحابة الذين أخذوا الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصلوا خَلْفَهُ سنوات عديدة أنهم لم يكونوا يفعلونها، فتكون تلك الأفعال مؤيِّدَةً لما ورد من عدم ذكرها في وصف صلاته، وتكون مُعَارِضَة لما رواه مالك بن الحويرث.

ولا يمكن الاحتجاج في هذا المقام بالقول إنه لا أحد من الصحابة جَمَعَ كلَّ ما صَدَرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلَّ واحد منهم عَلِمَ ما حَضَرَه، وغاب عنه ما لم يَحْضُرْهُ؛ فتلك المقولة صحيحة، ولكنها تنطبق على ما صَدَرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان، فيحضره البعض ويغيب عنه البعض. أما تلك الجلسة فإنها جزء من الصلاة التي تتكرر خمس مرات في اليوم، والذين رُوِيَ عنهم عَدَمُ فِعْلِهَا من الصحابة حضروا معه مئات الصلوات، وهي الصلاة نفسها تتكرر في كل وقت، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على فِعْلِ تلك الجلسة لَمَا كان ذلك يغيب عنهم. فكونُ أولئك الصحابة لم يعملوا بها يدلُّ على أنهم لم يروه يداوم عليها. وكيف يغيب هذا الفعل الذي يتكرر خمس مرات في اليوم عن الصحابة الذين صلوا معه سنوات عديدة، ويتفرَّد به صحابي مكث مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يوما فقط!

ولا مجال في هذه المسألة لإعمال قاعدة: العِبْرَةُ بالرواية لا بِفَهْمِ الصحابي؛ لأنه لا توجد رواية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة أصلا، وإنما المسألة كلها قائمة على الوصف والفهم. فمالك بن الحويرث رأى النبي صلى الله عليه وسلم يجلس تلك الجلسة في الأيام التي قضاها معه، ففهم من ذلك أنها جزء مقصودٌ في الصلاة، وعامة الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في السنوات الكثيرة التي قضوها معه لا يفعلها، فلم يعملوا بها، والظاهر أنهم فهموا أن ما كان من فِعْلِه لها في وقت مُعَيَّن لم يكن مقصودا لذاته، وإنما كان للحاجة في الاستعانة به على القيام، فلذلك لم يأخذوا به في حال عدم الحاجة إليه.

لا شك أن ما رواه مالك بن الحويرث من فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم ثابت، ولكن فِعْلَ الصحابة يَدُلُّ على أنه لم يُعْهَد من النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على تلك الممارسة، وبهذا يَثْبُتُ التعارض. ومادام التعارض ثابتا، فإن الأفضل هو الجمع بين الحالين بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعلها في غالب الأحوال، وإنما فَعَلَها لعارض جعله يحتاج إليها في التمكُّن من الوقوف. وقد ذهب بعض العلماء إلى هذا، ومال إليه ابن قدامة في قوله: "وقيل: إن كان المصلي ضعيفا جلس للاستراحة لحاجته إلى الجلوس، وإن كان قويا لم يجلس لغناه عنه، وحُمِلَ جلوسُ النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنه كان في آخر عمره عند كبره وضعفه. وهذا فيه جَمْعٌ بين الأخبار، وتوسُّط بين القولين." (المغني، ج1، ص380). وقال ابن قيم الجوزية: "لا ريب أنه صلى الله عليه وسلم فَعَلَهَا، ولكن هل فَعَلَهَا على أنها من سُنَنِ الصلاة وهيئاتها كالتجافي وغيره أو لحاجته إليه لما أَسَنَّ وأَخَذَهُ اللَّحْمُ؟ وهذا الثاني أظهر لوجهين: أحدهما: أن فيه جَمْعًا بينه ويبن حديث وائل بن حجر وأبي هريرة أنه كان ينهض على صدور قدميه. الثاني: أن الصحابة الذين كانوا أحرص الناس على مشاهدة أفعاله وهيئات صلاته كانوا ينهضون على صدور أقدامهم." (الصلاة وأحكام تاركها، ص167).

3- حديث أبي حميد الساعدي في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري وغيره -من طريق ابن حلحلة- دون ذكر للجلوس عند الرفع من الركعة الأولى. جاء في صحيح البخاري: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ: أَنَا كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى، وَنَصَبَ اليُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى، وَنَصَبَ الأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» (صحيح البخاري، باب سُنَّة الجلوس في التشهد). وهي الرواية التي اعتمدها ابن حزم، وذكرها في أدلة النافين لجلسة الاستراحة.

ورواها ابن حبان والبيهقي من طريق عبد الحميد بن جعفر (قال عنه ابن حجر: صدوق وربما وهم. وعن ابْنِ مَعِينٍ، قال: كان يَحْيَى بن سَعِيْدٍ يُضَعِّفُ عبد الحميد بن جعفر، وقَدْ روى عنْهُ)، وفيها ذكر لتلك الجلسة: (...ثُمَّ عَادَ فَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ" ثُمَّ ثَنَّى رِجْلَهُ الْيُسْرَى ثُمَّ قَعَدَ عَلَيْهَا حَتَّى رَجَعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ فِي الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ...) (صحيح ابن حبان).

الخلاصة

من المعلوم أنه لم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم قولٌ يجعل تلك الجلسة جزءا من الصلاة أو يُرَغِّبُ فيها، وما ورد فيها هو من وَصْفِ الصحابي لفِعْلِه صلى الله عليه وسلم، وذلك الفعل يحتمل أن يكون مقصودا لذاته، ويحتمل أن يكون مما اسْتَعَان به على القيام لِظَرْفٍ طارئ. قال ابن تيمية: "جلسة الاستراحة قد ثَبَتَ في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم جلسها؛ لكن تَرَدَّدَ العلماء هل فَعَلَ ذلك مِنْ كِبَرِ السنِّ للحاجة، أو فعل ذلك لأنه من سُنَّةِ الصلاة. فمن قال بالثاني: استحبها كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. ومن قال بالأول: لم يَسْتَحِبَّها إلا عند الحاجة كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. ومن فَعَلَهَا لم يُنْكَر عليه وإن كان مأموما... وهل هذا إلا فِعْلٌ في مَحَلِّ اجتهاد." (مجموع الفتاوى، ج22، ص451). ومادام الأمر مَحَلَّ اجتهاد، فَكُلٌّ يأخُذُ بما يميل إليه دون إنكار على من يخالفه، ولا اتهام الآخر بترك السُّنَّة أو مخالفتها.
 
أعلى