رد: تعارض خبر الواحد مع الأصول .. عند الحنفية والمالكية،،
السلام عليكم
أخي كامل محمد عامر
اعلموا أن كافّة الأئمة وفقهاء المذاهب وعلماء الأمّة حريصون على اتّباع كلام الله سبحانه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .. والخلاف الحاصل بينهم ناتج عن اجتهادهم واختلاف نظرهم، فلا يُتّهم فيه أحدهم بمُخالفة السُّنَّة، فهذه تُهمة عظيمة لا تليق والمقام!
فأما نقول أهل الحديث التي تفضّلتَ بها فغير دقيقة وليس لها معنى هاهُنا .. وفيما يلي تعليق على بعض ما أتيتَ به:
أن السنة النبوية لا يجوز مخالفتها لرأي أو اجتهاد أو قياس كما قال الإمام الشافعي رحمه الله في آخر " الرسالة " : " لا يحل القياس والخبر موجود "ومثله ما اشتهر عند المتأخرين من علماء الأصول : " إذا ورد الأثر بطل النظر "و" لا اجتهاد في مورد النص "
هذا على افتراض أن ثبوت النصّ ودِلالته قطعية، ففي هذه الحالة لا يكون ثمَّ اجتهاد ولا نظر،
أما الاجتهاد فمقبول إذا كان ثبوت النصّ ظنيّ أو دِلالته ظنيّة.
حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة
من قال هذا؟! .. حتى الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة لم يردّوا الآحاد مُطلقًا، وإنما وضعوا لقبوله شروطًا، وفرّقوا فيه بين المشهور والعزيز والغريب (وهو تفريق مشهور لدى متأخّري أهل الحديث).
تقديم القياس على خبر الآحاد .
كلام غير دقيق على إطلاقه .. فالقياس (المُجرّد من الأصول والقرائن) لا يُقدَّم على خبر الآحاد (المُتفّق على صحّة إسناده ومعناه)، وحتى عند التعارض فله ثلاثة أحوال وكل حالة لها مذاهب وأدلة .. إذا تعارض القياس وخبر الواحد مع إمكانية تخصيص الخبر بالقياس، وإذا تعارضا مع إمكانية تخصيص القياس بالخبر، وإذا تعارضا من كل وجه.
وحتى إذا تعارض خبر الواحد مع الآحاد من كل وجه فلأهل العلم فيه مذاهب وتفصيلات.
فالشافعية والحنابلة وأكثر الأصوليين وبعض الحنفية ورواية المدنيين عن مالك: جميعهم على تقديم خبر الواحد على القياس مُطلقًا .. ولهم في ذلك أدلة، وللمُخالفين تعقيبات عليها.
وحتى من قال من الفقهاء بتقديم خبر الواحد على القياس مُطلقًا لم يلتزم ذلك في جميع فروعه! .. ودونك -على سبيل المثال وليس الحصر- أقوالهم التالية:
1- قول النووي بعدم جواز البناء في الرّعاف - كما في المجموع 4/ 6 .. وهو تقديم للقياس على خبر الواحد (حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "إذاء أحدكم في صلاته أو رعف فلينصرف وليبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلّم").
2- قول الشافعي بتفضيل أن يُضحّى بالإبل من البقر، والبقر من الغنم، والضأن من المعز - كما في الحاوي 15/ 77 .. وهو تقديم للقياس على خبر الواحد (حديث البخاري وغيرها أنه عليه الصلاة والسلام ضحَّى بغير الكباش. وهو دليل على أفضلية الكباش في الضحايا).
3- مذهب الشافعية في جواز التبسّط في الغنيمة قبل القسمة قياسًا على جواز أكل الطعام الثابت بقول ابن عمر رضي الله عنه: "كُنَّا نُصيب في مغازينا العسل والعنب" .. وهو مُخالف لما رواه رافع رضي الله عنه: كُنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، وأصبنا إبلًا وغنمًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات النّاس، فعجلوا، فنصبوا القدور، فأمر بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير".
ولأجل ذلك -وغيره- ذهب بعضهم إلى توجيه موقف الشافعية والحنابلة من تعارض خبر الواحد مع القياس، ولهم في ذلك تفصيلات يطول بسطها.
وعلى الرغم من ترجيح رواية المدنيين في تحرير أصول مذهب الإمام مالك -رضي الله عنه- (لتقديم المدوّنة على الموطأ ووجوه أخرى كثيرة يُرجّحون بها الرواية السابقة)؛ إلا أن ثمَّ رواية أخرى عنه تقول بتقديم القياس على خبر الواحد مُطلقًا عند تعارضهما من كلّ وجه، لأن خبر الواحد يُفيد الظنّ ولا يُفيد العلم! .. وهو مذهب حكاه ابن القصّار عن الإمام مالك، وأورده القاضي عبدالوهاب عن أبي الفرج، وأبي بكر الأبهري، وادعى الباجي أنه قول أكثر المالكية، وهو ما عزاه أكثر الأصوليين إلى مالك وأصحابه .. ومن أشهر الأمثلة التي تُساق في ذلك (ولها تفصيلات تطول): كلامه في أقل الحيض، وقضاء الصوم مع الأكل والشرب ناسيًا، ومسألة الوقوف بعرفة بالليل دون النّهار، وزواج العبد أكثر من اثنتين، ومسألة نكاح الأمة على الحُرَّة، وولوغ الكلب.
وبعض الفقهاء قالوا بالتفصيل لإعمال المذهبين معًا؛ فلم يردّوا خبر الواحد مُطلقًا، ولم يدفعوا به القياس مُطلقًا، وإنما قدَّموا القياس تارة، والخبر تارةً أخرى ..
1- فبعضهم أناط المسألة
بحال الراوي -فقهًا وعدالة- فاعتبر رواية الفقيه أقوى من كلِّ قياس مُخالف، وميّز بين الرواة وصنّفهم على درجات متفاوتة في العلم والمعرفة والعدالة (وهو مذهب الحنفية).
2- ومنهم من نظر إلى
العلل الشرعية، ففرّق بينها باعتبار قوّة دِلالتها، فجعل العِلّة القطعيّة مُقدَّمة على القياس حال المُناهضة، بخلاف الوصف المُستنبط أو المنصوص عليه بدليل ظني (وهو مذهب أبي الحسن البصري).
3- وبعضهم اشترط
قطعيّة متن الخبر، وفرَّق بين عِلَّة القياس المنصوصة والمُستنبطة (وهو مذهب الآمِدي وابن الحاجب).
4- وبعضهم
توقّف في مسألة تعارض القياس مع خبر الواحد ابتداءًا؛ لأن الظنّ الحاصل بهما واحد، وترجيح أحدهما على الآخر ترجيح من غير مُرجِّح (والتوقّف هو مذهب القاضي أبو بكر الباقلاني).
وقال عزَّ وجلَّ :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]
أما الاستدلال بمقتضى هذه الآية الكريمة فلا يستقيم من عدّة وجوه:
1- أن التمسّك بعمومها يؤدي إلى إبطال الاحتجاج بالقياس مُطلقًا!
2- أن الذي أمر المُجتهدين بعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، أمر المُكلّفين بالاعتبار، فقال في مُحكم تنزيله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) [الحشر: 2] ومعلومٌ أنَّ تقديم إحدى الآيتين على الأخرى في الحُجيَّةِ، هو من قبيل الترجيح بدون مُرجِّح، لهذا ينبغي على المُجتهد أن يلتمس القرائن في تقديم القياس على الخبر أو العكس.
3- الروايات قد اختلفت في سبب نزول هذه الآية على خمسة أقاويل (كما نقله ابن العربي في أحكام القرآن، طبعة دار المعرفة 4/ 1712، 1713) والأصل الجامع لها: هو أنَّها تحض على مُتابعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في أقواله وأفعاله وتقريراته، وما يختلف على ذلك أحد.
4- أن أصل القياس قد يكون راجحًا على الخبر؛ وذلك إذا استند الأصل إلى نصّ قويّ في دِلالته من خبر الواحد.
قال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيَّنات والهُدى...) قال: "قوله تعالى: (من البينات والهدى)
يعمّ المنصوص عليه والمُستنبط؛ لشمول اسم الهدى للجميع".
إطلاق السنة توحي بعدم التفريق بين المتواتر منها والآحاد، وهو غير دقيق! .. وخبر الآحاد لا يُفيد العلم بإتّفاق جماهير المُحدّثين أنفسهم!
هل يجوز تقليد أهل المدينة
تقديم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح.
الجُملة الثانية المُقتبسة غير دقيقة .. فمذهب الإمام مالك -رضي الله عنه وأرضاه- يُقدّم عمل أهل المدينة عندما "يتعارض" مع "خبر الواحد" .. هكذا يكون تحرير القول، وليس هو تقديم مُطلق لعمل أهل المدينة على كل حديث صحيح!!
بالإضافة إلى أنك قد تتفاجأ إذا علمت أن المذهب المالكي يستدلّ بأحاديث من السُّنَّة على ذلك (قد تتّفق أو تختلف معهم في دِلالتها، لكن لا تتّهمهم بترك السُّنَّة، فهذه فرية عظيمة!!) .. فمن الأدلّة التي استدلّ بها على حُجيَّة عمل أهل المدينة:
- حديث: "إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد".
- وحديث: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جُحرها".
- وحديث: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة" (وبعض أهل العلم أسقط هذ الحديث على حال الإمام مالك -رضوان الله عليه-).
فالإمام مالك -رضي الله عنه- مثلًا روى حديث ابن عمر رضي الله عنه في رفع اليدين في الصلاة بأصح الأسانيد ولم يعمل به، لأنه خالف عمل أهل المدينة ولأن رواة الحديث عملوا بخلافه .. فاتّهام الإمام مالك -رضي الله عنه- (أو غيره) هُنا بترك السنة أو مُخالفتها هو من الجهل أو عدم إدراك حُجّته .. والأمثلة على ذلك كثيرة.
والإمامين مالك بن أنس والليث بن سعد -رضي الله عنهم- كانت فيما بينهم مُراسلات لنقاش هذه المسألة أظهروا فيها عِلمًا وأدبًا (رواها عباس الدوري في «التاريخ» لابن معين (2 /378-379)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (50 /357-358) قال يحيى: حدثناعبد الله بن صالح. ورواها يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (1 /391-393)، وعنه ابن القيم في «إعلام الموقعين»، من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي. وقال القاضي في «ترتيب المدارك»: "وهي رسالة صحيحة مروية").
لمن أراد مُطالعة مُراسلتهم:
https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=100081
التقليد واتخاذه مذهباً وديناً.
التقليد جائز فيما دون العقائد لكل من لم يمتلك آلة الاجتهاد والنظر في الأدلّة رفعًا للمشقّة .. وعلى هذا اتّفق أهل العلم خلافًا لمُعتزلة بغداد وبعض أفراد العلماء الذي اشتُهِرُوا بالمخالفة .. والأدلة على جواز التقليد للعوام:
قول الله عز وجل: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العيّ السؤال".
الأدلة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد
كون خبر الآحاد يوجب العمل إذا ثبتت صحّته أمر (لم يختلف عليه أحد) .. وكونه يُردّ -وإفادته الظنّ- إذا تعارض مع دليل قطعي ثبوتًا ودِلالة -يُفيد العلم- أمر آخر.
و الجواب:أن الدين كله تعظم به البلوى ، ويلزم للناس معرفته
في ذلك تفصيل يطول بسطه هاهُنا.
إذا روي الصاحب حديثاً ، ثم روي عنه مخالفته لذلك الحديثفَمِمَّا لا شك فيهأنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه،فلما بلغهحدث بما بلغه
هذه صورة مُحتملة .. لكن
يُحتمل أيضًا أنه قد رواه ثم أُعْلِمَ نسخه فعمل بخلاف ما رواه! .. والأمثلة التي أتيتَ بها لم تُحسنها.
هذا، ونسأل الله أن يرزقنا مُتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة .. والله أعلى وأعلم وردُّ العلم إليه أولى وأسلم.