د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
:: مشرف سابق ::
- إنضم
- 29 أكتوبر 2007
- المشاركات
- 9,059
- الكنية
- أبو فراس
- التخصص
- فقه
- المدينة
- جدة
- المذهب الفقهي
- مدرسة ابن تيمية الحنبلية لذا فالمذهب عندنا شيء والراجح شيء آخر تماماً!.
خلاصة مباحث العرف لدى الأصوليين والفقهاء:
§ العادة:غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها([1]).
§ للعرف سلطان: حتى قالوا عنه إنه الطبيعة الثانية، أي كأنه من جنس الأمور التي جبل عليها الإنسان، ولذا فنزع الناس عنه حرج عظيم([2]).
§ من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الكلام في العرف يقع في موطنين:
الموطن الأول: فيه إجماعات متحققة.
الموطن الثاني: فيه نزاعات ثائرة.
ووقع في اعتبار هذين الموطنين:خللٌ من حيث استصحاب أحد الموطنين إلى الموطن الآخر، فقد اقتصر نظرُ جماعة على الإجماعات المتحققة، فتوهموا أنها كل مسائل العرف، فنفوا الخلاف في حجية العرف ومسائله، واقتصر آخرون على مواطن النزاع، فتوهموا أن النزاع حاصلٌ في كل مسائل العرف.
وأشار القرافي في تنقيح الفصول: إلى ما نقله بعضهم عن المذهب المالكي أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فتعقبه وبين أن الأمر ليس كذلك، وأن العرف مشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها.
ووافقه على ذلك: الطوفي واستشهد عليه بمسائل من فقه الحنابلة([3]).
§ وفي هذين النقلين عن هذين الإمامين إشارة إلى طائفتين:
الأولى: التي اقتصرت على موطن النزاع، فاعتبرت أن حجية العرف والعوائد من خواص المذهب المالكي، وهؤلاء هم من تعقبهم القرافي.
الثانية: التي اقتصرت على موطن الإجماع، فنفت الخلاف في المسألة، وعلى هذا سار القرافي والطوفي، وجرى على إثرهما أكثرُ الباحثين في المسألة.
والحق: أن الإجماع إنما هو في موطن، وأن النزاع في موطن، ولا يصح في العرف إطلاق الإجماع أو النزاع مرسلاً.
§ لا يشك الدارس لفروع المذاهب الفقهية أن هناك فرقاً شاسعاً في اعتبار العرف، وأنهم على اتجاهين كبيرين:
الاتجاه الأول: يمثله الحنفية والمالكية.
الاتجاه الثانية: يمثله الشافعية والحنابلة والظاهرية.
فالاتجاه الأول: وسعوا دائرة الاحتجاج بالعرف.
والاتجاه الثاني: اقتصروا على موطن الإجماع منه.
§ محل الاتفاق في استعمال العرف يقع في موضعين:
§ الموضع الأول: العرف القولي:
والمقصود به: اعتبار الحقيقة العرفية وتقديمها على الحقيقة اللغوية، بسبب هجران المعنى الأصلي، ونقلها إلى معنى آخر بواسطة الاستعمال العرفي المتكرر([4]).
ويشترط فيه: أن يكون العرف مقارناً أو سابقاً لنزول الوحي، مثل إطلاق الدابة على ذوات الأربع، وإطلاق الدرهم على النقد، وإطلاق المرأة على الحرة.
ويستفاد من هذا العرف: في فهم النصوص، من خلال دراسة متعمقة لعرف عصر التنزيل.
وهو معتبر بالإجماع: فالعرف الاستعمالي قاضٍ على الحقيقة اللغوية بلا خلاف أو تردد([5]).
وجعله الشاطبي: شرطاً لمن أراد الخوض في علم القرآن والسنة معرفة عادات العرب في أفعالها وأقوالها ومجاري عاداتها حالة التنزيل من عند الله، والبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الجهل بها موقع في الإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة.
§ الموضع الثاني: تحقيق مناط الحكم:
فالقاعدة: أن كل ما ورد به الشرع مطلقا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف([6]).
وقد يختلفون في:
1- اعتباره في أعيان المسائل أو في عدم اعتباره.
2- أو في ضابط العرف ومداه.
ومن أمثلته: اعتبار القبض والحرز وما يدل على الرضا، وما ينقطع به خيار المجلس عند من يقول به.
وأمثلته وافرة في جميع المذاهب.
ومن أفرعه: أن العرف ينزل منزلة النطق في الأمر المتعارف([7]).
أمثلته: فيما يجري في العقود والأيمان وغير ذلك من إهمال التنصيص على عرفٍ مستقر، فيجرى مجرى النطق به، فلو جرى عرفٌ بأن على البائع أن يحمل العين المبيعة إلى منزل المشتري لم يشترط التنصيص عليه، ويقام العرف مقام النطق به، ولو جرى عرف أن الأيمان يقع على الطلاق فإنه يعتبر كذلك.
والخلاصة: أن العرف يعتبر في فهم النصوص، وهو ما يسمى بالحقيقة العرفية، ويعتبر في ما كان مدركه العوائد كتحقيق مناط النصوص المطلقة، أو إجراء العرف مجرى النطق في الأمر المتعارف.
§ محل النزاع في استعمال العرف:
يقع في موضعين:
الموضع الأول: الاستثناء من القياس:
يعتبر الحنفية والمالكية العرفَ في الاستثناء من القياس، وهذا مشهور عنهم، ومنصوص، والتمثيل عليه يعز عن الحصر، ويذكرونه في قواعدهم وفي فروعهم، وهذا ما لا تكاد تجده عند غيرهم.
وبه ندرك:عدم دقة نقل الإجماع في العرف؛ لأن هذا الموطن هو مسقط الأنظار في المسألة، وفيه خلافٌ كما ترى، أما غيره فهو ليس من مثارات الإشكال، فجميعهم على أن الأحكام التي مدركها العوائد تتغير بتغير العوائد، وقد بين القرافي أن هذا ليس تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية.
ولذا فالمفترض: أن يفرز ذلك في عمليات تحرير محل النزاع.
ومن أمثلة اعتبار العرف في الاستثناء من القياس:
1- استصناع الأواني والخفاف ودخول الحمام من غير تعيين زمن ولا أجرة.
2- جواز بيع دور مكة.
3- صحة وقف المنقولات.
4- جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
5- استثناء المرأة الشريفة من عموم قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}.
· الخلاف بين الاتجاه الأول الذي يمثله الحنفية والمالكية في اعتبار العرف في الاستثناء من القياس، وبين الاتجاه الثاني الذي يمثله الشافعية والحنابلة والظاهرة في عدم اعتبار العرف في القياس، يمكن تحصيله بيسر من خلال النظر إلى أمرين:
- القواعد الفقهية:
فالأولون ينصون على:
1. أن "الثابت بالعرف ثابتٌ بدليل شرعي".
2. وأن المعروف بالعرف كالمعروف بالنص".
3. وأنه "يعدل بالعرف عن النص أو الراجح أو المشهور".
- الاستدلالات:
ومن ذلك قولهم:
1- "المدرك في هذه المسألة العرف".
2- "مستند الفتوى العرف والعادة".
3- "هذه القضية يتعين المصير فيها إلى العرف".
أما الشافعية والحنابلة:
فإنما يقع عندهم الاستفادة من العرف فيما أطلقه الشارع أو العاقد ونحو ذلك، مثل قولهم:
1- "المعروف عرفا كالمشروط شرطا".
2- و"العادة محكمة".
3- و"العرف في الشرع له اعتبار".
ونحو ذلك مما يفيد اعتبار العرف في تحقيق مناطات الأحكام أو إجراء العقود على وفقها، ونحو ذلك، فلا يصح الاستفادة من هذه القواعد الخاصة في اعتبار العرف إلى أنهم يعتبرون العرف مطلقاً([8]).
وبه نعرف: أن الخلاف بين الفقهاء في اعتبار العرف هو خلاف حقيقي ، وليس هو خلاف شكلي في مدى التوسع فيه، كما قرر ذلك أكثر المعاصرين.
كما أن من الواجب الإشارة هنا: إلى أنه لا يصح البتة الاستدلال بتغير اختيارات الشافعي في مصر على أنه يستدل بالعوائد والأعراف، فهذا قدرٌ زائد، يفتقر إلى برهان، فقد يكون ذلك بسبب التطور في شخصية الشافعي، ولو كان مأخذ الشافعي في ذلك اعتبار العرف لملأ به الشافعي صفحات كتابه الأم.
الموطن الثاني: يعتبر العرف في تغير الحكم الشرعي بتغير الصفات الموجبة له:
1- فالاستئجار لقراءة القرآن: محرم عند أبي حنيفة، ورخص فيه متأخروهم لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت متوفرة في الصدر الأول، بحيث لو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة للزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة للزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم.
2- الاكتفاء بظاهر العدالة: ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة، وخالفوا نص الإمام لأنه كان بناء على غلبة العدالة في عصره الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدرك الزمن الذي فشا فيه الكذب، ونصوا على أن هذا اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان.
3- قضاء القاضي بعلمه: الأصول تقتضي أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي، ويستند إليه، ويستغني به عن بينة المدعي، ولكن مع غلبة أخذ الرشا وفساد القضاة: أفتى المتأخرون أنه لا يجوز للقاضي أن يستند إلى علمه في القضايا.
وهذا الموطن:معتبر عند الحنفية والمالكية بظهور، فالحنفية ينصون على الاستناد على العرف في بناء الأحكام، أما المالكية فما أكثر خروجهم عن الراجح والمشهور نظراً إلى العرف، وهذا مذكور في عملياتهم الخاصة عند المغاربة والأندلسيين.
الموطن الثالث: النصوص التي كان مدركها العوائد:
التمثيل على هذا الموطن يقع في المواضع التي أخذ فيها بعض الفقهاء بظاهر النص، والتزم الوصف المذكور فيه، وأخذ آخرون بتأويله، وتنزيله على العادات الموجودة في زمن الوحي، وأن ذلك يتغير بتغير العادات.
ومن أمثلته: الصلاة في النعلين، وما يستحب لبسه، ومخالفة المشركين في صور معينة، وقد يدرج فيه أمر عثمان بالتقاط ضوال الإبل وبيعها على خلاف ما أفتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من تركها؛ لأن الناس في زمنه قلت فيهم الأمانة وانتشر من يأخذ الإبل ولا يتركها.
والخلاف في هذه المسألة يقع في موضعين:
الموضع الأول: بين أهل المعاني وأهل الظواهر.
الموضع الثاني: بين أهل المعاني في فقه النصوص في اعتبار العوائد في النص المعين أو عدم اعتباره.
إشارات:
§ وقع في التشريع إقرار جملة من الأعراف والعادات، كتدوين الدواوين، والمضاربة والقسامة، ومن جملتها عوائد لأهل الجاهلية، وعوائد لأهل الروم وفارس، وهذا يدل على مدى اهتمام الشارع بإقرار الأعراف الصحيحة متى وجد إلى ذلك من سبيل([9]).
§ العرف ليس دليلاً تأسيسياً منشئا يقوم بنفسه، ولكنه قد يكون علامة عل الدليل، أو طريقا له، أو مناطاً للحكم، فيبحث عن العرف لتحقيقه، وقد يكون العرف باعثاً للنظر بسبب أنه يستدعى من الحاجة والضرورة، فيكون كاشفاً لدليل دقيق في استثناء مصلحي من دليل عام.
§ قد يضاف الدليل إلى العرف وهو في حقيقته يرجع إلى دليل شرعي، ككثير من المسائل التي هي في الحقية إجماع كبيع دور مكة، وجواز الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وجواز وقف المنقول، والاستصناع، وعرف المدنيين راجع إلى عمل أهل المدينة، وكثير من الاستثناءات المعلقة بالعرف راجعة إلى المصالح المرسلة.
§ قد يكون العرف علامة على الحاجة، فيعلق الحكم بالعرف ظاهرا، وإن كانت حقيقته أنه معلق بالحاجة.
§ للعرف أثرٌ قوي في ترجيح كثير من الأقوال المختلفة، وقد يقدم على الأصل.
§ للعرف أثر في القرائن.
§ العرف سبب في تغير الفتوى، وما استقر عليه المذهب.
§ العرف مرجع أساسي في اعتبار العقود والخطابات وفي القرائن وأدلة القضاء.
§ مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية في عدم اعتبار العرف في إنشاء الأحكام أدق من حيث التأصيل، فالعرف ليس من جنس الأدلة ، لكن مذهب الحنفية والمالكية في اعتبار العرف في الاستثناء والخروج من القياس؛ فيه دقة وخفاء، فهم يعتبرون العرف في ذلك لا لأنه دليل قائمٌ بنفسه ولكن لأنه دليلٌ على وجود الحاجة إليه لما في إغفاله من الحرج، فاستقرار العرف على بعض المسائل الخارجة عن القياس يشير إلى تحقق معنىً من المعاني المجيزة للخروج منه، ولك أن تقول: هو استثناء مصلحي لمعارض راجح دل عليه العرف.
§ الأحكام التي مدركها العوائد تتغير بتغير العوائد، وقد بين القرافي أن هذا ليس تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء ونحن نتبعهم فيها من غير اجتهاد([10]).
§ اعتبار العرف في الأساليب المحددة السائرة التي تعتبر العرف قرينة ضرورية لفهم سياق الكلام ومقاصد الناس ونياتهم.
§ نقل ابن عابدين عن بعض المحققين أنه لا بد للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، ومن هنا اشترط فقهاء المالكية أن يكون القاضي بلدياً، أي يعرف أحوال أهلها وعاداتهم([11]).
وأخيرا: فقد كانت هذه الخلاصة تأخذ منحى الاستدراك على بعض المعاصرين، فلما وجدت الأمر شائعاً آثرت إغفال المستدرك عليه، ولعل في هذا تحقيق الغرض من غير إثارة الردود، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
([1]) تنقيح القرافي وابن فرحون في التبصرة والطرابلسي في معين الحكام. العرف والعاد لأبي سنة ص12.
([2]) العرف والعادة لأبي سنة ص16.
([3]) تنقيح الفصول للقرافي ص448، شرح مختصر الروضة (3/212).
([4]) فإن لم تهجر الحقيقة وإنما تكرر استعمال اللفظ في غير مدلوله مجازا كالأسد في الشجاع؛ فليس بعرف قولي، بل هو مجاز مشهور فقط. العرف والعادة لأبي سنة ص11.
([5]) العرف والعادة ص18.
([6]) السيوطي الأشباه والنظائر.
([7]) العرف عند الحنابلة لعادل قوتة ص273.
([8]) ينظر: العرف والعادة في المذهب المالكي ص89.
([9]) ينظر: العرف والعادة لأبي سنة ص193.
([10]) الفروق 1/177،العرف والعادة في المذهب المالكي ص151
([11]) العرف والعمل في المذهب المالكي ص 147-151
§ العادة:غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها([1]).
§ للعرف سلطان: حتى قالوا عنه إنه الطبيعة الثانية، أي كأنه من جنس الأمور التي جبل عليها الإنسان، ولذا فنزع الناس عنه حرج عظيم([2]).
§ من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الكلام في العرف يقع في موطنين:
الموطن الأول: فيه إجماعات متحققة.
الموطن الثاني: فيه نزاعات ثائرة.
ووقع في اعتبار هذين الموطنين:خللٌ من حيث استصحاب أحد الموطنين إلى الموطن الآخر، فقد اقتصر نظرُ جماعة على الإجماعات المتحققة، فتوهموا أنها كل مسائل العرف، فنفوا الخلاف في حجية العرف ومسائله، واقتصر آخرون على مواطن النزاع، فتوهموا أن النزاع حاصلٌ في كل مسائل العرف.
وأشار القرافي في تنقيح الفصول: إلى ما نقله بعضهم عن المذهب المالكي أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فتعقبه وبين أن الأمر ليس كذلك، وأن العرف مشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها.
ووافقه على ذلك: الطوفي واستشهد عليه بمسائل من فقه الحنابلة([3]).
§ وفي هذين النقلين عن هذين الإمامين إشارة إلى طائفتين:
الأولى: التي اقتصرت على موطن النزاع، فاعتبرت أن حجية العرف والعوائد من خواص المذهب المالكي، وهؤلاء هم من تعقبهم القرافي.
الثانية: التي اقتصرت على موطن الإجماع، فنفت الخلاف في المسألة، وعلى هذا سار القرافي والطوفي، وجرى على إثرهما أكثرُ الباحثين في المسألة.
والحق: أن الإجماع إنما هو في موطن، وأن النزاع في موطن، ولا يصح في العرف إطلاق الإجماع أو النزاع مرسلاً.
§ لا يشك الدارس لفروع المذاهب الفقهية أن هناك فرقاً شاسعاً في اعتبار العرف، وأنهم على اتجاهين كبيرين:
الاتجاه الأول: يمثله الحنفية والمالكية.
الاتجاه الثانية: يمثله الشافعية والحنابلة والظاهرية.
فالاتجاه الأول: وسعوا دائرة الاحتجاج بالعرف.
والاتجاه الثاني: اقتصروا على موطن الإجماع منه.
§ محل الاتفاق في استعمال العرف يقع في موضعين:
§ الموضع الأول: العرف القولي:
والمقصود به: اعتبار الحقيقة العرفية وتقديمها على الحقيقة اللغوية، بسبب هجران المعنى الأصلي، ونقلها إلى معنى آخر بواسطة الاستعمال العرفي المتكرر([4]).
ويشترط فيه: أن يكون العرف مقارناً أو سابقاً لنزول الوحي، مثل إطلاق الدابة على ذوات الأربع، وإطلاق الدرهم على النقد، وإطلاق المرأة على الحرة.
ويستفاد من هذا العرف: في فهم النصوص، من خلال دراسة متعمقة لعرف عصر التنزيل.
وهو معتبر بالإجماع: فالعرف الاستعمالي قاضٍ على الحقيقة اللغوية بلا خلاف أو تردد([5]).
وجعله الشاطبي: شرطاً لمن أراد الخوض في علم القرآن والسنة معرفة عادات العرب في أفعالها وأقوالها ومجاري عاداتها حالة التنزيل من عند الله، والبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الجهل بها موقع في الإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة.
§ الموضع الثاني: تحقيق مناط الحكم:
فالقاعدة: أن كل ما ورد به الشرع مطلقا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف([6]).
وقد يختلفون في:
1- اعتباره في أعيان المسائل أو في عدم اعتباره.
2- أو في ضابط العرف ومداه.
ومن أمثلته: اعتبار القبض والحرز وما يدل على الرضا، وما ينقطع به خيار المجلس عند من يقول به.
وأمثلته وافرة في جميع المذاهب.
ومن أفرعه: أن العرف ينزل منزلة النطق في الأمر المتعارف([7]).
أمثلته: فيما يجري في العقود والأيمان وغير ذلك من إهمال التنصيص على عرفٍ مستقر، فيجرى مجرى النطق به، فلو جرى عرفٌ بأن على البائع أن يحمل العين المبيعة إلى منزل المشتري لم يشترط التنصيص عليه، ويقام العرف مقام النطق به، ولو جرى عرف أن الأيمان يقع على الطلاق فإنه يعتبر كذلك.
والخلاصة: أن العرف يعتبر في فهم النصوص، وهو ما يسمى بالحقيقة العرفية، ويعتبر في ما كان مدركه العوائد كتحقيق مناط النصوص المطلقة، أو إجراء العرف مجرى النطق في الأمر المتعارف.
§ محل النزاع في استعمال العرف:
يقع في موضعين:
الموضع الأول: الاستثناء من القياس:
يعتبر الحنفية والمالكية العرفَ في الاستثناء من القياس، وهذا مشهور عنهم، ومنصوص، والتمثيل عليه يعز عن الحصر، ويذكرونه في قواعدهم وفي فروعهم، وهذا ما لا تكاد تجده عند غيرهم.
وبه ندرك:عدم دقة نقل الإجماع في العرف؛ لأن هذا الموطن هو مسقط الأنظار في المسألة، وفيه خلافٌ كما ترى، أما غيره فهو ليس من مثارات الإشكال، فجميعهم على أن الأحكام التي مدركها العوائد تتغير بتغير العوائد، وقد بين القرافي أن هذا ليس تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية.
ولذا فالمفترض: أن يفرز ذلك في عمليات تحرير محل النزاع.
ومن أمثلة اعتبار العرف في الاستثناء من القياس:
1- استصناع الأواني والخفاف ودخول الحمام من غير تعيين زمن ولا أجرة.
2- جواز بيع دور مكة.
3- صحة وقف المنقولات.
4- جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
5- استثناء المرأة الشريفة من عموم قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}.
· الخلاف بين الاتجاه الأول الذي يمثله الحنفية والمالكية في اعتبار العرف في الاستثناء من القياس، وبين الاتجاه الثاني الذي يمثله الشافعية والحنابلة والظاهرة في عدم اعتبار العرف في القياس، يمكن تحصيله بيسر من خلال النظر إلى أمرين:
- القواعد الفقهية:
فالأولون ينصون على:
1. أن "الثابت بالعرف ثابتٌ بدليل شرعي".
2. وأن المعروف بالعرف كالمعروف بالنص".
3. وأنه "يعدل بالعرف عن النص أو الراجح أو المشهور".
- الاستدلالات:
ومن ذلك قولهم:
1- "المدرك في هذه المسألة العرف".
2- "مستند الفتوى العرف والعادة".
3- "هذه القضية يتعين المصير فيها إلى العرف".
أما الشافعية والحنابلة:
فإنما يقع عندهم الاستفادة من العرف فيما أطلقه الشارع أو العاقد ونحو ذلك، مثل قولهم:
1- "المعروف عرفا كالمشروط شرطا".
2- و"العادة محكمة".
3- و"العرف في الشرع له اعتبار".
ونحو ذلك مما يفيد اعتبار العرف في تحقيق مناطات الأحكام أو إجراء العقود على وفقها، ونحو ذلك، فلا يصح الاستفادة من هذه القواعد الخاصة في اعتبار العرف إلى أنهم يعتبرون العرف مطلقاً([8]).
وبه نعرف: أن الخلاف بين الفقهاء في اعتبار العرف هو خلاف حقيقي ، وليس هو خلاف شكلي في مدى التوسع فيه، كما قرر ذلك أكثر المعاصرين.
كما أن من الواجب الإشارة هنا: إلى أنه لا يصح البتة الاستدلال بتغير اختيارات الشافعي في مصر على أنه يستدل بالعوائد والأعراف، فهذا قدرٌ زائد، يفتقر إلى برهان، فقد يكون ذلك بسبب التطور في شخصية الشافعي، ولو كان مأخذ الشافعي في ذلك اعتبار العرف لملأ به الشافعي صفحات كتابه الأم.
الموطن الثاني: يعتبر العرف في تغير الحكم الشرعي بتغير الصفات الموجبة له:
1- فالاستئجار لقراءة القرآن: محرم عند أبي حنيفة، ورخص فيه متأخروهم لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت متوفرة في الصدر الأول، بحيث لو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة للزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة للزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم.
2- الاكتفاء بظاهر العدالة: ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة، وخالفوا نص الإمام لأنه كان بناء على غلبة العدالة في عصره الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدرك الزمن الذي فشا فيه الكذب، ونصوا على أن هذا اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان.
3- قضاء القاضي بعلمه: الأصول تقتضي أن يقضي القاضي بعلمه الشخصي، ويستند إليه، ويستغني به عن بينة المدعي، ولكن مع غلبة أخذ الرشا وفساد القضاة: أفتى المتأخرون أنه لا يجوز للقاضي أن يستند إلى علمه في القضايا.
وهذا الموطن:معتبر عند الحنفية والمالكية بظهور، فالحنفية ينصون على الاستناد على العرف في بناء الأحكام، أما المالكية فما أكثر خروجهم عن الراجح والمشهور نظراً إلى العرف، وهذا مذكور في عملياتهم الخاصة عند المغاربة والأندلسيين.
الموطن الثالث: النصوص التي كان مدركها العوائد:
التمثيل على هذا الموطن يقع في المواضع التي أخذ فيها بعض الفقهاء بظاهر النص، والتزم الوصف المذكور فيه، وأخذ آخرون بتأويله، وتنزيله على العادات الموجودة في زمن الوحي، وأن ذلك يتغير بتغير العادات.
ومن أمثلته: الصلاة في النعلين، وما يستحب لبسه، ومخالفة المشركين في صور معينة، وقد يدرج فيه أمر عثمان بالتقاط ضوال الإبل وبيعها على خلاف ما أفتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من تركها؛ لأن الناس في زمنه قلت فيهم الأمانة وانتشر من يأخذ الإبل ولا يتركها.
والخلاف في هذه المسألة يقع في موضعين:
الموضع الأول: بين أهل المعاني وأهل الظواهر.
الموضع الثاني: بين أهل المعاني في فقه النصوص في اعتبار العوائد في النص المعين أو عدم اعتباره.
إشارات:
§ وقع في التشريع إقرار جملة من الأعراف والعادات، كتدوين الدواوين، والمضاربة والقسامة، ومن جملتها عوائد لأهل الجاهلية، وعوائد لأهل الروم وفارس، وهذا يدل على مدى اهتمام الشارع بإقرار الأعراف الصحيحة متى وجد إلى ذلك من سبيل([9]).
§ العرف ليس دليلاً تأسيسياً منشئا يقوم بنفسه، ولكنه قد يكون علامة عل الدليل، أو طريقا له، أو مناطاً للحكم، فيبحث عن العرف لتحقيقه، وقد يكون العرف باعثاً للنظر بسبب أنه يستدعى من الحاجة والضرورة، فيكون كاشفاً لدليل دقيق في استثناء مصلحي من دليل عام.
§ قد يضاف الدليل إلى العرف وهو في حقيقته يرجع إلى دليل شرعي، ككثير من المسائل التي هي في الحقية إجماع كبيع دور مكة، وجواز الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وجواز وقف المنقول، والاستصناع، وعرف المدنيين راجع إلى عمل أهل المدينة، وكثير من الاستثناءات المعلقة بالعرف راجعة إلى المصالح المرسلة.
§ قد يكون العرف علامة على الحاجة، فيعلق الحكم بالعرف ظاهرا، وإن كانت حقيقته أنه معلق بالحاجة.
§ للعرف أثرٌ قوي في ترجيح كثير من الأقوال المختلفة، وقد يقدم على الأصل.
§ للعرف أثر في القرائن.
§ العرف سبب في تغير الفتوى، وما استقر عليه المذهب.
§ العرف مرجع أساسي في اعتبار العقود والخطابات وفي القرائن وأدلة القضاء.
§ مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية في عدم اعتبار العرف في إنشاء الأحكام أدق من حيث التأصيل، فالعرف ليس من جنس الأدلة ، لكن مذهب الحنفية والمالكية في اعتبار العرف في الاستثناء والخروج من القياس؛ فيه دقة وخفاء، فهم يعتبرون العرف في ذلك لا لأنه دليل قائمٌ بنفسه ولكن لأنه دليلٌ على وجود الحاجة إليه لما في إغفاله من الحرج، فاستقرار العرف على بعض المسائل الخارجة عن القياس يشير إلى تحقق معنىً من المعاني المجيزة للخروج منه، ولك أن تقول: هو استثناء مصلحي لمعارض راجح دل عليه العرف.
§ الأحكام التي مدركها العوائد تتغير بتغير العوائد، وقد بين القرافي أن هذا ليس تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء ونحن نتبعهم فيها من غير اجتهاد([10]).
§ اعتبار العرف في الأساليب المحددة السائرة التي تعتبر العرف قرينة ضرورية لفهم سياق الكلام ومقاصد الناس ونياتهم.
§ نقل ابن عابدين عن بعض المحققين أنه لا بد للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، ومن هنا اشترط فقهاء المالكية أن يكون القاضي بلدياً، أي يعرف أحوال أهلها وعاداتهم([11]).
وأخيرا: فقد كانت هذه الخلاصة تأخذ منحى الاستدراك على بعض المعاصرين، فلما وجدت الأمر شائعاً آثرت إغفال المستدرك عليه، ولعل في هذا تحقيق الغرض من غير إثارة الردود، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
([1]) تنقيح القرافي وابن فرحون في التبصرة والطرابلسي في معين الحكام. العرف والعاد لأبي سنة ص12.
([2]) العرف والعادة لأبي سنة ص16.
([3]) تنقيح الفصول للقرافي ص448، شرح مختصر الروضة (3/212).
([4]) فإن لم تهجر الحقيقة وإنما تكرر استعمال اللفظ في غير مدلوله مجازا كالأسد في الشجاع؛ فليس بعرف قولي، بل هو مجاز مشهور فقط. العرف والعادة لأبي سنة ص11.
([5]) العرف والعادة ص18.
([6]) السيوطي الأشباه والنظائر.
([7]) العرف عند الحنابلة لعادل قوتة ص273.
([8]) ينظر: العرف والعادة في المذهب المالكي ص89.
([9]) ينظر: العرف والعادة لأبي سنة ص193.
([10]) الفروق 1/177،العرف والعادة في المذهب المالكي ص151
([11]) العرف والعمل في المذهب المالكي ص 147-151
التعديل الأخير: