رد: دروس في فقه الجنايات والحدود 2
الفصل السابع
حد البغي
أولاً: تعريف البغي والفرق بينه وبين الحرابة :
البغي في اللغة : بمعنى الظلم والتعدي والاستطالة
والبغي في الاصطلاح الشرعي : الخروج عن طاعة من ثبتت إمامته وغالبته بالقوة .
والبغاة هم : الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ولهم شوكة ولو لم يكن فيهم مطاع .
سموا بغاة لعدولهم عن الحق وما عليه أئمة المسلمين .
فإن اختل شرط من ذلك بأن لم يخرجوا على إمام ، أو خرجوا عليه بلا تأويل سائغ ، أو كانوا جميعا
يسيرا لا شوكة لهم ، فقطاع طريق لابغاة .
وبهذا يتضح الفرق بين البغاة والمحاربين ( قطاع الطريق ) : فكل منهما أي البغاة والمحاربون خارجون على الإمام ، إلا أن البغاة لهم تأويل سائغ ، وأما المحاربون فهم يخرجون بقصد الإفساد ولا تأويل لهم .
----------------------
ثانياً: الأدلة على مشروعية قتال البغاة :
الأصل في قتالهم : الكتاب والسنة والإجماع :
- أما الكتاب : فقوله تعالى: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون "
- وأما السنة : فأحاديث كثيرة منها :
1- قوله عليه الصلاة والسلام : " من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه ". رواه أحمد ومسلم
2- وعن ابن عباس مرفوعا : " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فميتته جاهلية " متفق عليه
- وأما الإجماع : فقد أجمع الصحابة على قتال البغاة ، وقاتل علي رضي الله عنه أهل النهروان فلم ينكره أحد .
---------------
ثالثاً: حكم تنصيب الإمام :
تنصيب الإمام فرض كفاية لحاجة الناس لذلك لحماية البيضة والذب عن الحوزة وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية : " قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الإجتماع القليل العارض في السفر وهو تنبيه على أنواع الإجتماع". انتهى.
وكل من ثبتت إمامته حرم الخروج عليه وقتاله أيًا كان طريقة تنصيبه :
1- سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه كإمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
2- أو بعهد الإمام الذي قبله إليه كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما .
3- أو باجتهاد أهل الحل والعقد لأن عمر جعل أمر الإمامة شورى بين ستة من الصحابة فوقع الإتفاق على عثمان رضي الله عنه .
4- أو بقهره للناس حتى أذعنوا له ودعوه إماما كعبد الملك بن مروان لما خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها ودعوه إماما لأن في الخروج على من ثبتت إمامته بالقهر شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وإذهاب أموالهم .
يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " . رواه الترمذي
قال أحمد : ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا .
----------------
رابعاً: شروط الإمام :
- كونه قرشيا لقوله صلى الله عليه وسلم : "الأئمة من قريش " متفق عليه
- بالغا
- عاقلا
- سميعا
- بصيرا
- ناطقا
- حرا
- ذكرا
- عدلا
- عالما
- ذا بصيرة
- كفئا
ويجب أن تتحقق فيه هذه الشروط ابتداء ودواما لاحتياجه إلى ذلك في أمره ونهيه وحربه وسياسته وإقامة الحدود ونحو ذلك.
ولأن العبد منقوص برقه مشغول بحقوق سيده وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض وغيره والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد الحديث محمول على نحو أمير سرية ، أو أنه إن تغلب بالقوة .
والمرأة ليست من أهل الولاية وفي الحديث : " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". رواه البخاري.
لا ينعزل الإمام بفسقه لما في ذلك من المفسدة بخلاف القاضي ولحديث: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان".
-----------------
خامساً: حكم البغاة :
أولاً: تلزم الإمام مراسلة البغاة ، وإزالة شبههم ، وما يدعون من المظالم ، فإذا ذكروا مظلمة أزالها ، وإن
ذكروا شبهة كشفها ، لأن ذلك وسيلة إلى الصلح المأمور به والرجوع إلى الحق ، ولأن عليا رضي الله عنه
راسل أهل البصرة يوم الجمل قبل الوقعة وأمر أصحابه أن لا يبدأوهم بقتال ، وقال إن هذا يوم من فلج فيه
فلج يوم القيامة .
وروى عبد الله بن شداد أن عليا رضي الله عنه لما اعتزله الحرورية بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه
كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف
ثانيًا : فإن رجعوا وإلا لزمه قتالهم لقوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ، ويجب على
رعيته معونته للآية ، ولأن الصحابة قاتلوا مانعي الزكاة ، وقاتل علي رضي الله عنه أهل البصرة يوم الجمل
وأهل الشام بصفين .
وإذا حضر من لم يقاتل لم يجز قتله لأن عليا رضي الله عنه قال : " إياكم وصاحب البرنس " يعني محمد بن طلحة السجاد وكان حضر طاعة لأبيه ولم يقاتل ، ولأن القصد كفهم وهذا قد كف نفسه قاله في الكافي .
ثالثًا :ويختلف قتال البغاة عن قتال المشركين في امور منها :
• أنهم إذا تركوا القتال حرم قتلهم وقتل مدبرهم ، وجريحهم : لأن المقصود قتالهم لا قتلهم ، لقول
مروان صرخ صارخ لعلي يوم الجمل : " لا يقتلن مدبر ، ولا يذفف على جريح ، ولا يهتك ستر ، ومن
أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن " .
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي"
فقلت : الله ورسوله أعلم
فقال : "لا يقتل مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم.
وعن أبي أمامة : قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا ولأن
المقصود دفعهم فإذا حصل لم يجز قتلهم كالصائل .
• ولا يغنم مالهم ولا تسبى ذراريهم : بلا خلاف بين أهل العلم ، لأن مالهم مال معصوم وذريتهم
معصومون .
• ويجب رد ذلك إليهم : لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين وإنما أبيح قتالهم للرد إلى الطاعة وعن
علي أنه قال يوم الجمل : من عرف من ماله مع أحد فليأخذه فعرف بعضهم قدرا مع أصحاب علي وهو
يطبخ فيها فسأله إمهاله حتى ينطبخ فأبى وكبه وأخذها.
• ولا يضمن البغاة ما أتلفوه حال الحرب كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه للبغاة حال الحرب : لأن
عليا لم يضمن البغاة ما أتلفوه حال الحرب من نفس ومال.
وقال الزهري : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون وفيهم البدريون فأجمعوا أنه لا يقاد أحد ولا يأخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه .
• وإن استولوا على بلد فأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج والجزية احتسب به : لأن عليا رضي الله عنه لم يتبع ما فعله أهل البصرة ولم يطالبهم بشيء مما جباه البغاة ولأن ابن عمر وسلمة بن الأكوع كان يأتيهم ساعي نجدة الحروري فيدفعون إليه زكاﺗﻬم ولأن في ترك الاحتساب بذلك ضررا عظيما على الرعايا
، وهم في شهادﺗﻬم وإمضاء حكم حاكمهم كأهل العدل لأن التأويل في الشرع لا يفسق به الذاهب إليه
أشبه المخطىء من الفقهاء في فرع فيقضي بشهادة عدولهم ولا ينقص حكم حاكمهم إلا ما خالف نص
كتاب أو سنة أو إجماعا.
• ويغسل قتلاهم ويصلى عليهم : لأنهم مسلمون.
ومما سبق يتبين أن قتال البغاة يختلف عن بقية الحدود من حيث إنه لا يعد عقوبة بالمعنى المألوف للعقوبة التي توقع على الأفراد ، وإنما هو من باب دفع الصائل ، فيعمل الإمام على دفع شرهم بالأسهل فالأسهل ، فمتى اندفع شرهم بالموعظة لم يجز قتالهم .